2
يومًا ما في قديم الأزل بينما كانت تقف البلابل والعصافير على أغصان الشجر تستمتع ببراء البَرِيّة وتتأمل في الكون الفسيح، سمعت صرخة أول بشري وهو يستنجد لحظة قتله، فلا يجد من ينقذه من يد قاتله المنفرد به لينتقم.
كانت هذه هي أول جريمة قتل عرفتها الإنسانية لكنها لم تكن الأخيرة، فبعد كل هذه السنوات، ظهرت لنا جريمة تشببها كثيرًا خلال الأيام الماضية وهي جريمة قتل محمد راجح لمحمود البنا.
ففي مدينة تلا بمحافظة المنوفية في مصر، وفي مشهد مختلف ولم نر له مثيلًا من قبل، كانت كاميرات المراقبة تسجل لحظة قتل الشاب محمود البنا الذي لم يبلغ بعد 18 سنة من العمر، صورته الكاميرات وهو يجري مسرعًا بعيدًا عن القاتل راجح و3 من أصدقائه في محاولة للهروب بعدما طعنوه ورشوا مادة حارقة للعين على كل من يحاول إيقاف هذه المهزلة أو يحل الأمر، لكن وبكل أسف ظهر له صديقهم الرابع من حيث لا يدرى وطعنه هو الآخر طعنات قاتله أودت بحياته وأخذت حياة والديه وأخوته وأصدقائه إلى منحنى آخر لا يوجد فيه البنا مرة أخرى..
أصبح البنا منذ لحظة وفاته شخصية رمزية لكل شاب شهم يبحث عن الحق بينما أصبح راجح رمزًا لكل شخص فاسد يدعمه أهله للخروج به من المصائب دون عقاب وكأنهم يقولون له استمر فيما تفعل فأنت على صواب.
لا أريد التطرق أكثر لتفاصيل الحادث حيث يمتلئ الإنترنت بشكل عام ووسائل التواصل الاجتماعي بشكل خاص بكل المعلومات والتفاصيل لكننا الآن أمام أكثر عمل فني أقرب للواقع، رغب في تسجيل تلك الحادثة بكل صدق ومحاولة للإصلاح، وهو الفيلم القصير “راجح قاتل” الذي نعرضه فيما يلي ثم بعدها نتحدث مع المخرج عن تفاصيل أكثر تخص الفيلم وتحضيراته و”كواليسه” واستفسارات الجمهور التي ستطرأ على عقلك وأنت تشاهده بدون أدنى شك.
أتبع المخرج فادي نور في هذا الفيلم -الأقرب ما يكون للواقعية والاحترافية- أسلوبًا جديدًا للربط بين ما سجلته كاميرات المراقبة وبين المشاهد التمثيلية التي يقوم بها الممثلين، وهو ما أوحى للجمهور بقربهم من الواقعة ومعايشتهم لها من خلال الاتساق بينهما ليمتزجوا معًا وكأنهم عمل واحد.
فهيا بنا نبدأ الحوار..
اسمي فادي نور، مخرج أردني مصري، خريج معهد السينما بالأردن، أخرجت 58 فيلمًا قصيرًا وعملت لفترة في قناة أون تي في، أيضًا أخرجت فيلمًا طويلًا شارك في مهرجانات عديدة، وفيلمي الأخير هو “حارة أمين” سيُطرح في السينما في فبراير القادم.
عندما عدت من السفر الأسبوع السابق عرفت بالحادثة وعلمت أن الجميع متعاطف معها كما أنها تحولت لقضية رأي عام، فعرض عليّ تميم نور فكرة فيلم قصير يجسد الواقعة، وبعد البحث والتواصل مع عدد من الأشخاص من المنوفية منهم صديق لمحمود البنا تأكدنا من حقيقة التفاصيل والمعلومات خصوصًا وأن الكثير منها متضاربة وغير متشابهة أبدًا كما أننا استعنَّا بمصحح لكنات أيضًا من المنوفية لتصحيح لكنات الممثلين لتشبه طريقة كلام سكان تلا.
وعندما سألناه عن الجمع بين اللقطات الحقيقية التي التقطتها كاميرات المراقبة للواقعة وبين المشاهد التمثيلية، أجاب هو أسلوب فني يستخدم عادةً في تمثيل الوقائع الحقيقية عند إنتاج الأعمال الفنية التي تجسدها، وتسمى تلك التقنية بالــ “ديكودراما”.
تعتمد هذه الطريقة على الجمع بين اللقطات التوثيقية التي سجلتها الكاميرات للواقعة وبين المشاهد التمثيلية التي تتطلب رسمًا دقيقًا وتفصيليًا للحركات وتوقعًا عاليًا للحديث الدائر بين الأبطال، وهذا ما عملنا عليه ليخرج العمل بهذه الصورة.
وحول اختيار للممثلين قال اخترت الممثلين على أساس الشبه في الشكل والجسد مع شخصيات الواقعة الأصلية من خلال الاستعانة بكل المعلومات عن حضور ورشة التمثيل الخاص بي على مدار الثلاث السنوات الماضية التي أُقيمت فيهم.
فبالنسبة لراجح أخترت حسام طلبة -وهو الممثل الجوكر بالنسبة لي في معظم أعمالي- من ثم أرسلت له المقطع الصوتي الذي هدد فيه راجحُ البنا ومقطعي الفيديو على صفحته في موقع التيك توك ثم طلبت منه أن يذاكر الشخصية جيدًا.
بعدها بساعات فوجئت به وقد تبدل تمامًا ليأتي وهو يشبه راجح في كل شيء إلى حد كبير من لون وقصة الشعر وحتى اللكنة وطريقة الكلام مرورًا بالشخصية والطبع.
أما أحمد البدري الذي أدى دور محمود البنا فقد حرصت على أن يكون شخصيته رجولية أكثر من الشبه الكبير بينه وبين البنا فقد كان في مقارنة مع أربعة آخرين لتأدية الدور وعلى الرغم من أن اثنان منهما كانا يشبهان البنا أكثر إلا أنني اخترت البدري لأن صوتهما كان أنعم قليلًا منه بينما صوته أعطاني إحساسًا أكثر بالرجولة، وهو المطلوب إخراجيًا لإظهار شخصية البنا.
وسألنا عن الهدف من إخراج الفيلم، فقال توعية الشباب هو هدفي من الفيلم خصوصًا في كظم الغيظ لأن راجح لو كظم غيظه وتغاضى عن الموقف لما حدثت هذه المأساة، وهذا ما أستعد له الآن في الجزء الثاني من الفيلم..
سوف أحرق الفكرة لكِ حصريًا..
سيتحدث هذا الجزء من الفيلم بشكل كبير عن مصير محمد راجح خلال السنوات القادمة، وعن ضرورة تعديل القانون العالمي للطفل لأن راجح بهذه الطريقة لن يخسر شيئًا بل سيكمل تعليمه في السجن -وهذا حقه القانوني- وأيًا كان الحكم له حق النقض مرة واثنين وبعدها سيخرج ويتزوج وينجب وكل شيء سيسير كما كان قبل الجريمة كنت أتمنى لو يكون له حالة استثنائية في الحكم لأنني أتساءل أين حق البنا وأهله من كل هذا؟
للأسف الذي يحيا دائمًا في أذهان الناس هو الشر أو القاتل، وليس المقتول فعندما تبحثي أو يبحث أي شخص عن هذه الجريمة يكتب “راجح قاتل” أو “قضية راجح” مع أنه القاتل والظالم ليس المظلوم.. وهذا تفسيري أيضًا لتسمية الناس لأبنائهم باسم قابيل وليس هابيل على الرغم من أن قابيل هو القاتل وهابيل هو الخيّر المقتول.
أما عن سبب تسمية الفتاة باسم مستعار فقال في الحقيقة قضية راجح والبنا قضية رأي عام لم أرغب في توريط الفتاة فيها أكثر من ذلك لأنني رأيت فيها أختي، وقد يكون لموضوع الاسم المدلل نفسه مغزى أو رمز معين، فهي فتاة وسط عدد من الشباب عندما يلقبونها باسم دلع سيوحي بصداقتهم وقربهم منها.
وتحدث المخرج عن كواليس الفيلم قائلًا: “ونحن في مكان التصوير بمنطقة أبيس بالإسكندرية كانت الناس متعاطفة معنا بشكل لا يمكن تصوره حتى أنهم كانوا يوقفون مؤدي دور محمود البنا ليقولون له الله يرحمك بينما ينظرون لمؤدي دور راجح بكل استحقار”..
أيضا أثناء التصوير رغبت في إغضاب مؤدي دور محمود البنا فطلبت من أحد الحاضرين -دون علم منه- أن يسبه بوالدته حتى أرى ردة فعله تجاه المواقف التي تلمس العرض وتنم عن الشهامة والدم الحامي، وفعلًا حدث ما توقعت فطلبت منه أن يقوم بذلك أثناء تأديته مشهد تبليغ صديقه له بالواقعة ويعتبرها أخته أو أمه.
وحول لدغة صديق البنا في حرف الراء، فعلًا هناك مغزى فني طلب عبد الله الألفي -صديق البنا- أن يبرزه عندما اقترح عليّ أن يظهر وكأنه ألدغ في الراء ليقلل من شخصيته أمام مؤدي دور محمود البنا حتى يتعاطف الناس مع البنا ويظهر هو بشخصية ضعيفة وجبانة على الرغم من أن الألفي أقدم من البدري في الورشة حيث التحق البدري بنا قبل تصوير الفيلم بـ 3 أيام فقط.
وحول أشهر ردود أفعال الجماهير عن الفيلم أجاب:
القميص الأخضر المشهور لراجح الذي لم يظهر في الفيديو: للأسف هذا الأمر لم يكن بأيدينا لأننا بحثنا كثيرًا عن قميص يشبهه قبل التصوير لكننا لم نجده وهذا بخلاف ملابس محمود البنا التي عثرنا عليها كلها بكل سهولة.
النهاية كانت سريعة جدًا وقليلة التفاصيل: هذا كان سبب نفسي بشكل كبير لأنني تعبت كثيرًا أثناء تصوير مشهد الجريمة وقلبي آلمني بشدة لأن تصوير جريمة وقعت بالفعل مرة أخرى هو أمر في غاية البشاعة ولم أستطع تحمله.
لماذا “لوكيشن التصوير” مختلف عن موقع الجريمة؟ تصميم وتنفيذ أي “لوكيشن” تصوير أمر سهل وليس بالصعوبة التي تجعل المخرج يفسد العمل من أجله لكني هنا اخترت الأشجار لأرمز إلى قصة قتل قابيل وهابيل التي حدثت منذ قديم الأزل بين الأشجار والطبيعة.