تعددت الشخصيات التي ظهر بها القذافي منذ أن وصل إلى السلطة في بلاده بانقلاب عسكري عام 1969، وهو لم يكتف بزعامة بلاده لنحو 42 عاما، بل خاض غمار التنظير و"الإبداع" في أكثر من مجال.
وعلى الرغم من مقتله منذ نحو 8 سنوات، إلا أن القذافي يظل شخصية مثيرة للجدل، يبالغ خصومه في ذمه والحط منه، كما يبالغ أنصاره في تبجيله وتنزيهه، ومرد ذلك يعود إلى شخصيته المركبة التي يصعب الحكم عليها من زاوية واحدة، ولهذا تعددت وتباينت المواقف منه.
قال القذافي لمواطنيه: "أنفاسكم تلاحقني كالكلاب المسعورة"، جاء ذلك في سياق قصة بعنوان "الفرار إلى جهنم" نشرت في عام 1989، سرد خلالها أفكاره ومشاعره تجاه المحيطين به، وتحدث فيها مطولا عن نفسه.
حاول الزعيم الليبي الراحل في هذه القصة السردية أن يظهر جانبه الإنساني، وأن يبوح بمشاعره للآخرين وعن الآخرين، وأن يكشف عن ذاته من خلف كواليس السلطة وهيلمانها وجبروتها.
سعى القذافي في تلك المناسبة إلى الظهور بشكل مختلف من خلال نزع تاج السلطة في تلك الرحلة القصيرة إلى "جهنم"، واجتهد كي يعود إنسانا بسيطا يعبر عن همومه وعواطفه الخاصة بأقصى قدر من التجرد، إلا أنه فشل في ذلك، فما أن يظهر القذافي الإنسان حتى يطل ظل القذافي "الزعيم" ثقيلا مهيمنا في السرد، يحجب ما عداه.
تحدث القذافي في قصته عن الكثير، صال وجال كعادته. جعل من "جهنم" المكان الذي هرب إليه فارا من شعبه، كما يقول وحيدا مرتين، رمزا لمكاشفة حاول فيها أن يعيد رسم شخصيته من جديد، ولذلك بدأها بالحديث عن الطغيان.
استهل العقيد القذافي فراره إلى جهنم بالقول: "ما أقسى البشر عندما يطغون جماعيا!".
يا له من سيل عرم لا يرحم من أمامه!
إن طغيان الفرد أهون أنواع الطغيان، فهو فرد في كل حال... وتزيله الجماعة، ويزيله فرد تافه بوسيلة ما.
أما طغيان الجموع فهو أشد صنوف الطغيان فمن يقف أمام التيار الجارف والقوة الشاملة العمياء؟....
كم أحب حرية الجموع، وانطلاقها بلا سيد، وقد كسرت أصفادها وزغردت وغنت بعد التأوه والعناء. ولكني كم أخشاها وأتوجس منها!.
كشف القذافي عن ريبته وتوجسه من الجموع المحيطة به، وألح في إظهار نفسه بدويا بسيطا لا يملك أي شيء، لكن شعبه يطالبه بالكثير من دون وجه حق، "هذا ما فعلته وتفعله الجموع بأبطالها العظام... فبماذا أطمع أنا البدوي الفقير التائه في مدينة عصرية مجنونة".
لم يتمكن الزعيم الليبي الذي وصل إلى السلطة شابا في الـ27 عاما من عمره، وبقي فيها أكثر من 4 عقود من ضبط انفعالاته طويلا فخرجت سريعا عن السيطرة لتتحول إلى هجوم عنيف، كما لو أن صاحبه رأى نهايته فقرر أن يترك شهادته وأن ينتقم من خصومه متشفيا وهازئا: "بفراري إلى جهنم انتزعت نفسي منكم أيها العبيد المرتشون... أيها النسانيس والحرباوات والخزز... والكلاب المهاجرة الجرباء"